الإثنين 29 أيار 2023

جبيل

ما إن تلامس الشمس صفحة الأمواج المتلألئة بالضوء الخجول، حتى تخف الحركة التجارية في جبيل مدينة الحرف، ما خلا قلة من تجار السوق القديم المرصوف بالحصى البحري في مربعات صخرية، المفتوح على المدينة شرقا وعلى "سيدة البوابة" غربا فالبحر، وعلى "عجقة" شباب وشابات قصدوا المطاعم المنتشرة بكثرة في السوق القديم وعلى الخط الروماني والميناء... وأنت تعبره تلفح وجهك نسيمات لطيفة على شيء من البرودة تذكرك بأنك على أبواب الربيع وأن الجميع يتحضر لاستقبال عريس الفصول والنوافذ المشرعة على الأماسي الدافئة، وكثافة الندوات الفكرية والأدبية والسهرات الموسيقية ومعارض النحت والرسم والأشغال اليدوية ومهرجانات الفرح والتراث الراقية، تحتضنها مدينة جبيل - بيبلوس محاطة بالتاريخ الجاثم بعظمته وصفحاته المشرقة حولها، تنتظر الدفء والضوء لتعاود نشاطاتها بهمة خيرة شبابها وشاباتها يديرون المجلس البلدي، والمجلس الثقافي والأندية الثقافية والرياضية.
 
ومن لا يقصد مدينة جبيل - بيبلوس مدينة العيش الواحد، كأنه ضل الدرب وهو يعبر طريق الساحل تائها عن العنوان الذي يسجله السياح في دفاترهم الخاصة، أو يكون قد صم أذنيه عن سماع خشيش مجاديف مراكب فينيقية عمرها آلاف السنين، أو قد لا تكون الأحلام الوردية بين أدونيس وعشتروت قد خطرت له في بال.
 
لمحة تاريخية
جبيل المدينة الأقدم على ساحل المتوسط، بل هي من أقدم مدن العالم، على ما يذكر المؤرح "سكن يتن" البيروتي، وهو أول مؤرخ لمدينة جبيل - بيبلوس في القرن الرابع قبل المسيح.
 
قد يكون معنى الإسم مصنع الخزف "Cebel"، وسماها المصريون "كبنة"، وفي الآشورية "Gubli "، أما الإغريق فقد سموها على اسم الورق الذي كانت هي مصدره " Patyrus " وكان هرودس يتلفظ بها " Bublos " عوضا عن الإسم الأول تحريفا أو خطأ... واسمها أيضا "جبلة" و"جبال" في التوراة، واسمها السامي القديم لا يزال نابضا في اسمها الحديث "جبيل" الذي هو تصغير "الجبل" المشرف عليها جنوبا، وهذا الاسم بصورته العربية أحدث من صور أخرى وردت في آثار بابل ومصر والفينيقيين والعبرانيين. و"أخص به في صورته العربية يفرزها عن مدن غيرها كـ"جبلة" الواقعة شمال اللاذقية، و"جبل" في العراق، و"بيبلوس" القديمة في مصر السفلى". وفي جبيل من الآثار ما يجعلها متقدمة على غيرها من المدن الفينيقية.
 
قبل العهد اليوناني
سورها القديم، الذي حماها من الاعتداءات بحرا وبرا، يعود إلى أقدم الأزمنة التاريخية، ضرب مرارا ورممته الدول المتوالية عليها. اما مرفأها الذي خرج منه البحارة حاملين "الأبجدية" إلى العالم، وفيه كانوا يصنعون أساطيلهم من خشب الأرز، ويتبادلون التجارة مع المصريين، فقد صار اليوم مركزا لأضخم المهرجانات الدولية، ترفع فوق مياهه و"سنسوله" المسارح ليستقبل أهم الفنانين العرب والأجانب، ولتقدم عليه الأعمال اللبنانية ولا سيما مسرحيات الرحابنة.
 
قلعتها القديمة والمدافن في قلب الصخور، وفي المغاور المجهزة مع نواويسها، المزدانة بالنقوش والتصاوير والكتابات، وبالجواهر والحلى الغالية الثمن، وتماثيل أصنام وزجاجات للدموع، والآنية البيتية الثمينة المختلفة من الخزف والرخام والبرونز والمجوهرات الدقيقة الصنع، والأسلحة... إلى هذه الآثار البنائية آثار صناعية مصرية، أرسلها الفراعنة إلى معابد جبيل، منها الدمى وصور الآلهة المصريين؛ البشرية والحيوانية كالحيات والقرود...
 
وفي هذه المدينة آثار يونانية، منها نقود ونواويس. أما الآثار الرومانية فلا تزال هي الأبرز، أخصها الهيكل الذي بناه الرومان ولا تزال أعمدته قائمة إلى اليوم، وكذلك المسرح، والحمامات والمعاهد الرسمية، فلم يبق منها إلا القليل بفعل النكبات والزلازل...
 
وفي جبيل جامعان أثريان لصيقان بالقلعة يعودان إلى زمن العثمانيين: مسجد السلطان عبد المجيد، ومسجد السلطان ابرهيم بن أدهم المعروف بمسجد "البحارة" الذين كانوا يلجأون إليه انتظارا لهدوء فوران البحر لمعاودة إبحارهم. وهناك، أيضا، جامعان حديثا العهد: جامع النور وجامع الإمام علي. 
 
أما كنائسها فيعود إنشاؤها إلى زمن ملوك الروم ومنها "مار يعقوب" وكنيسة القديسة "تقلا"، وكنيسة القديسة "أكويلينا" و"سيدة البوابة" وكنيسة "سيدة النجاة". وفي عهد الصليبيين من العام 1095 وحتى العام 1245 رممت القلعة وحصنت، وبعض ما يرى منها اليوم من الحجارة الضخمة شبيه بمداميك قلعة بعلبك. وبنى الصليبيون، كذلك، كنيستين: "مار يوحنا مرقص" وألحقوا بها قبة فوق حوض العماد... والآثار الباقية في قلعة جبيل، إلى اليوم، قائمة على جبيل الأولى والثانية والثالثة، وقد دل علماء الآثار على ذلك بفعل الحفريات والطبقات المكتشفة.