قراءة أولية في حرب غزة
ما حدث يوم ٧ تشرين الأول ٢٠٢٣ أشبه بزلزال جيو تاريخي لن تقف تداعياته في المدى المنظور، فهو قلب المعادلات وغير التفاهمات وقضى نهائيًا على فكرة التعايش بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي، أي دولتبن وشعبين متجاورين.
فالخسارة والإهانة وصور الأعداد الهائلة من الجنود والمدنيين الاسرائيليين القتلى والاسرى والتي جابت العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وضعت هذه الحرب بالنسبة لإسرائيل بمستوى "الهولوكوست"... فهي وإن كانت تعودت على خسارة جنودها في المعارك مع البلدان العربية والمنظمات الفلسطينية وح - Z - ب الله، إلا ان خسارة هذا العدد الهائل من المدنيين الذين هم أصلا مهاجرين من بلدان، حرك شعورًا بعدم الامان لدى المدنيين واصبح الخيار الاسهل بالنسبة لهم هو العودة إلى البلدان التي اتوا منها حفاظا على ارواحهم وبالتالي الرحيل عن الأرض الموعودة والتي كانت اساس فكرة الاستيطان، وهذا يعني إفراغ دولة إسرائيل من خزانها البشري.
الهجوم الذي اتى أغلب الظن ردًا على التطبيع السعودي - الاسرائيلي، والذي حمل معه تنكيلاً بحق مدنيين سيكمل بهجوم مضاد بدأ منذ اليوم الأول حاملاً معه تنكيلاً أكبر بحق المدنيين من الجهة المقابلة... وكأن من بدأ بالمجازر أراد أن يجعل من هذه الحرب حرب من غير عودة أو رسالة كرسالة الاسرائيلي عام ١٩٤٨ في قرية دير ياسين، مجازر بحق الشعب لعدم العودة إلى الأرض.
ما بات واضحًا اليوم، إن التطرف لا يجر الا الويلات والحروب، فحكومة اليمين المتطرف الاسرائيلي والتي استفزت الفلسطينيين هي التي اججت نار الحقد والتي كانت بحاجة الى شرارة اشتعال بسيطة، والتطرف الديني التي تمثله حماس وجناحها العسكري الذي يأتمر من إيران وكأنه أحد افرعة حرسها الثوري، لا يعير للإنتقام الاسرائيلي من المدنيين إعتبارًا، فهذا الجناح لا يفكر الا بكيفية السيطرة على مزيد من السلطة وتنفيذ اجندات إيرانية غير آبه بالدماء التي يدفعها الشعب الفلسطيني. والحسابات الايرانية كما راينا في لبنان عام ٢٠٠٦ لا تقيم وزنًا لأي أرواح مدنية من البلدان التي تلعب بمصيرها، فأرواح وممتلكات مواطني تلك الأوطان بالنسبة لإيران أضرار جانبية لا تعنيها.
اسرائيل اليوم وحسب اعتقادي ولأول مرة لن تُقيم اي حساب لأسراها، فهم بالنسبة لها قتلى وستقصف قطاع غزة ليل نهار ولن يتوقف القصف إلا عندما تفرغ المخازن من الذخيرة، ولن تقبل بعد اليوم وجود قطاع غزة أصلاً، ولن تقبل اقل من ترانسفير جديد لفلسطينيي القطاع نحو منطقة رفح المصرية او صحراء سيناء، يوم ٧ تشرين الأول غير مفاهيم الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وألغى فكرة السلام العادل والشامل.
الغيتو التي خلقته اسرائيل ووضعت فيه جزءًا من شعب في قفص، انقض عليها ولم يميز من كان داخل القفص بين السجان والمتفرج فاستباح الاثنين معًا وتحول الصراع القديم والذي كان يسير يومًا بنيات سلمية مع إسحاق رابين وياسر عرفات واياما بنيات الغائية مع ارييل شارون وبنيامين نتنياهو وحماس الى حرب وجودية لا مجال للبقاء فيها الا للمنتصر.
أما بالنسبة إلى ح - Z - ب الله والتي وجهت اسرائيل، بقصفها مواقع تابعة له، اليه رسالة مفادها: "ان اللعب انتهى وإن الاختباء خلف تسلل لست طرفًا فيه انتهت ايامه، فأنت ستدفع ثمنه لأنك سمحت به"... وضع نفسه في نفس موقف أنور السادات عندما توقف عند مضائق تيران في حرب أكتوبر ٧٣ ورفض دخول صحراء سيناء لعدم وجود منصات دفاع جوي متنقلة وكذب على حافظ الأسد عندما أقنعه ان الهدف هو الوصول إلى قلب اسرائيل، ولما انصاع للضغط الذي مارسه عليه الرئيس السوري، دُمر الجيش المصري الثالت في وسط الصحراء بواسطة الطيران الغير مقيد بخوفه من صواريخ سام الروسية واقيمت ثغرة الدفرسوار على يد ارييل شارون وخسرت مصر وسوريا الحرب من بعد انتصاراتهم في الايام الاولى. وأعتقد إن المحك الأكبر هو عندما يقترب موعد الهجوم البري، فالضغط سيرتفع والاتفاق على وحدة الجبهات سيكون تحت الامتحان.
يوم الاول تحول، لم يعد هناك من صراع مستمر الى ابد الابدين، التاريخ تغير في ٧ تشرين الاول يد حماس والجغرافيا الآن تتغير على يد اسرائيل... كم هو مؤسف ان تنتخب الشعوب التطرف على حساب الاعتدال، تمامًا كما حصل في لبنان عام ١٩٧٥ وعام ١٩٩٠ عندما تطرف المسيحيون فربحوا جولات صغيرة وخسروا الحرب الكبيرة، بعدما كانوا حاكمين بواسطة المعتدلين الذي اعتقد الناس انهم ضعفاء، فكانت الخسارة على يد المتطرفين الذين كانوا يدعون القوة...
من ينتخب التطرف لا يحصد الا الموت، انه درس لكل الشعوب التي تنحو نحو التطرف، والا تحول كل بلد يحكمه متطرفون الى مقبرة لشعبه.
وربما من اجل ذلك يبشر قادة الأحزاب والفصائل بثقافة الاستشهاد والجنة في العالم الآخر لكي يُقنعوا الذين يدفعون بهم الى آتون الحروب إن الموت افضل من الحياة... في النهاية من يزرع التطرف لا يحصد إلا الدماء والدمار وذكرى شهداء يُحتفل بها كل سنة، والملفت إن من يُقيمها لهم دائمًا هو المسؤول الأول عن ازهاق ارواحهم، بينما هو بقي حيًا لإصراره على الوجود على رأس الذكرى لا من ضمن من يُحتفل بذكراهم وللمفاوضات التي تأتي على حساب ارواحهم... والصورة السوريالية الصادمة ليكتمل المشهد الذي تقشعر له الأبدان، هو فرحة أهالي الشهداء براعي الحفل.