جورج «الفرمشاني»... درسٌ في إنسانيته
رفض هذا التسعيني النحيل البنية بعينيه اللتين تشعّان ذكاء وطرافة، وكرم روحه ومحبته، أن يعاني أي فقير من المرض دون أن يجد دواه، فكرّس ناسك تركيب المراهم الفعّالة حياته ووقته لخدمة كل من طرق بابه المفتوح دائمًا، ليصبح مقصد كل محتاج ودرسًا في انسانيته.
لـ"عمّو جورج الفرمشاني" (كما يعرفه الجميع) قصص وحكايات كثيرة، من الساحل الى الجرد من الشمال الى جنوب لبنان. أفنى عمره يخدم المحتاجين مجانًا، من خلال تركيب الادوية التي تعلّم صنعها بشغف طوال حياته. غيّبه الموت فانسحب بهدوئه الأنيق صباح سبتٍ كانونيّ دافىء هو الذي بقي يخدم كل محتاج خلال سنوات الحرب والأزمات المتتالية، وأخيرًا حين فُقدت الأدوية.
من عمر 8 سنوات بدأ جورج طنوس أبي خطار زغيب يعمل في صيدلية يوسف الخوري عام 1938، العائد من الولايات المتحدة الى لبنان مع بعض الأموال التي مكَّنته من فتح صيدلية في ساحة عمشيت. صغيرًا تعلّم أسرار مهنة الصيدلة من تركيب أدوية ومراهم ووصفات طبيعية. والتقى مع الكثير من الأطباء وعمل معهم، كان يقف على "طبلية" ليتمكن هذا الصغير الذي عشق المهنة، من تركيب الأدوية والوصفات التي تعلّمها. والى تركيب الأدوية غالبًا ما رافق الطبيب النائب شهيد الخوري ابن يوسف في جولاته على وبلدات جبيل لمساعدة المرضى والمحتاجين.
نقلت الصيدلية الى جبيل بعد وفاة يوسف الخوري، فتسلمها ابنه وديع وتابع جورج العمل معه. انتقل فترة الى البترون ليؤسس صيدلية طرابلسي ويعمل فيها قبل أن يعود مجددًا الى صيدلية الخوري في جبيل ويعمل فيها كل سنوات عمره الى جانب الصيدلاني ابراهيم الخوري ابن وديع وأبنائه.
لم يكن عمل "جورج الفرمشاني" ينتهي مع إقفال الصيدلية، بل حوّل بيته الحجري الصغير القريب من ساحة عمشيت الى مكان يقصده كل متألم وخصوصًا من عانوا من الأمراض الجلدية بعدما ذاع صيته في مناطق لبنان كلها وحتى بين لبنانيي المهجر. وزّع الأدوية مجانًا على كل محتاج وكان يستعين بابنه البكر طبيب القلب في فرنسا بيار وزوجته ماري ايلين في تأمين الأدوية المقطوعة لمن يحتاجها. كما وزّع المراهم الخاصة التي اشتهر وحده بتركيبها للعديد من الأمراض الجلدية كان يضعها في علب الأفلام السوداء الصغيرة ذات الغطاء الرمادي التي كان يستعملها ولده البروفسور بول زغيب المصور الفوتوغرافي وزوجته الدكتورة رانيا معوض.
انتخب عضوًا في بلدية عمشيت لسنوات، وساعد أكثر من خلال منصبه. كان قارئًا نهمًا للصحف، لا سيما منها جريدة "النهار"، ويحتفظ بأبرز أعدادها. يملك حسًا فكاهيًا مميزًا، يعرق نوادر أهل بلاد جبيل كاملة وسياسييها، وفي جعبته الكثير من الأخبار السياسية والطرائف التي لا تنتهي، هو الذي عرف قضاء جبيل وأهله منذ صغره عندما رافق الدكتور شهيد الخوري والعميد نجيب الخوري في كل حملاتهما الإنتخابية. كان يُطلق عليه لقب "مفتاح إنتخابي" لإلمامه بحاجات المواطنين وأحوالهم، هو المؤمن والقريب والمحب والمتواضع الذي يملك بالفعل مفتاح قلوبهم، والذي داوى العديد منهم ومن أولادهم الذين يعلمون أنه يملك دائمًا "الوصفة السحرية" لشفائهم. هذا العام احتفل ابن الـ94 سنة قبل ذهابه بالعام الـ70 لزواجه من جولييت الحاج. الرقيقة والمحبة التي فتحت أبواب منزلهما المليء بالحب والدفء لكل محتاج طوال تلك السنوات. رحل بصمت مكرمًا من قبل كل من عرفه ومن ساعدهم.
"عمر جورج الفرمشاني"... لأمثالك لا أوسمة إلا وسام محبتنا وفخرنا وتقديرنا لكل عطاءاتك.