الإثنين 29 أيار 2023

أنا والعميد

الأربعاء 10 أيار 2023
الدكتور جوي ريمون غالب
رئيس قطاع أميركا الشمالية وعضو مجلس حزب الكتلة الوطنية اللبنانية

أنا من قرية صغيرة في قضاء جبيل اسمها الخاربة. إذا كنت من جبيل وتتعاطى السياسة، ليس مستغربًا أن تكون كتلاويًا أو مقربًا من حزب الكتلة الوطنية. الأمور تغيّرت بالطبع مع غياب العميد عن البلد منذ منتصف السبعينات واندلاع الحرب، ولكن، وبالرغم من ذلك، لا يوجد شخص، حتى من الخصوم التقليديين، ولا يذكر العميد بالخير ويأسف لرحيله. ومؤخرًا تتردّد على مسامعنا، من البعيد سياسيًا قبل القريب، مقولة كم نحن بحاجة اليوم لشخص كالعميد ريمون اده. أصبحت تلك المقولة "محطة كلام" عند البعضح ولكن يتسـاءل المرء هل "انقطع" البلد من رجال (أو نساء) الدولة لنترحم كل يوم على شخص توفى منذ ٢٣ سنة؟

نعم أنا تربيت ببيت كتلوي، ولكن كما أبي، كان عندي خيار بين قوى الأمر الواقع (الميليشيات المسيحية) والتيار الشعبوي المناهض للميليشيات (العونيين)، ولكنني اقتنعت منذ صغري بصوابية الخيار الكتلوي. جدي من أبي كان نافذًا ضمن ما كان يُعرف بالدستوريين، أي العدو السياسي اللدود لحزب الكتلة. ولكن أبي لم يلحق بوالده، بل اختار طرحًا سياسيًا آخر كان يقوده شخص اسمه ريمون اده.

كان العميد يزورنا من وقت لوقت، بحكم أن والدي كان مختار البلدة. لا أتذكر تلك الزيارات الإجتماعية والسياسية، ولكن أتذكر ما كان والدي وعماتي يخبرونني عن تلك الزيارات وتجاربهم السياسية، خاصة فترة الإنتخابات النيابية، وكيف كان الوالد يعتقل من المكتب الثاني ليلة الإنتخابات بهدف التأثير على النتائج. ولم ينسوا ذكر "بيان عنايا" الشهير والذي جسد الشراكة بين جميع مكونات قضاء جبيل و"حمى" المنطقة من الإقتتال طوال فترة الحرب الأهلية. وكم كنت فخورًا عندما رأيت لاحقًا إمضاء والدي على ذلك البيان. 

في وقت كانت الشعبوية بأوجها والإقتتال في كل مكان، تربيت على مبادئ التعايش ورفض العنف وبالأخص على احترام الإنسان. والدتي كذلك طبعَت شخصيتي كونها صاحبة مبدأ لدرجة العناد… والعناد إذا كان مبنيًا على أمور مبدئية في الحياة ليس بالأمر السيء. ربما لا يستطيع الشخص تبوّء مناصب إذا كان من "هذا الطين" ولكن يستطيع أن ينام الليل وضميره مرتاح. هذا هو العميد، ضمير لبنان، العميد العنيد.

زرت العميد في فرنسا عندما كنت طالبًا جامعيًا. الإجتماع به كان مميزًا إذ انه يتكلم معك كأنك زميل أو صديق، بالرغم من الفرق الكبير بالعمر وبالخبرة طبعًا. أحب لبنان لدرجة أنه أصابني بتلك "العدوى" واليوم وبالرغم من وجودي خارج لبنان لسنوات وعقود، أنتظر أول مناسبة لزيارة لبنان كالولد الصغير الذي ينتظر نهاية الأسبوع لكي يلعب مع أصدقائه. مرةً، زرته وزرت العماد ميشال عون في اليوم ذاته. كان عون انتقل للتوّ إلى ضواحي باريس، يحمل معه شعبية كبيرة وخاصة عند الكتلويين. تفاجأت بجواب عون عندما ذكرت العميد إذ قال "شو بدك من هل الخرفان". أزعجني جوابه حيث كنت أتمنى توحيد جهود ما كان يعرف بالمعارضة الباريسية. وعند الإنتقال إلى الفندق الباريسي حيث كان يقطن العميد، لم أنقل ما قاله عون بل سألت العميد وبكل صدق – وسذاجة – لماذا لا تتعاون مع عون وتنقذون البلد. جوابه لم يكن بالشخصيّ، كما فعل عون، بل قال "إحذروا عون، فإنه طامح سلطة بأي سعر واذا وصل الله يساعدنا".

مرّت الأيام وتوفي العميد. حينها كنت أعيش في لبنان. دخلت لأول مرة إلى بيته في الصنايع لتقديم واجب العزاء. تعرفت على العميد الجديد وبنيت لاحقًا علاقة شخصية معه. بعدها تبوّأت مراكز مختلفة في الحزب وواكبت عن كثب ثورة ١٤ آذار والإنتخابات النيابية التي تلتها. وفي يوم لا يمكنني أن أنساه، كنت جالسًا مع العميد كارلوس اده في مكتب العميد ريمون اده المشهور، وكنا نتحدث بالإنتخابات والتحالفات. يومها كرر العميد كارلوس كلام عمّه ـ ولكن من منطلق مختلف ـ  وفسرّ لي بالتفصيل لماذا لن يتحالف مع عون. وكان يتكلم وأنا أسمعه ولكنني كنت أحدّق بصورة العميد ريمون اده على المكتب. عندها تذكرت تلك الجلسة في باريس ولمست كم كان العميد السابق على حق. لم يتحالف العميد كارلوس مع عون وخسر في عقر داره في جبيل ولكن كان قراره صائبًا ١٠٠% ولو كان العميد على قيد الحياة لكان اتخذ القرار نفسه.

اليوم وكل يوم وعندما أسمع تحليلاً سياسيًا أو يحصل شيء ما في البلد أسأل نفسي ما كان سيكون موقف العميد من هذا الموضوع وكيف كان سيقارب تلك المعضلة؟ للأسف وبعد ٢٣ سنة على مماته لا يوجد شخص في هذه الجمهورية يمكن الوثوق به أو أن يلعب دور "البوصلة السياسية" خاصة للجيل الصاعد. كلهم؛ ـ نعم "كلن يعني كلن"ـ عندهم مصالح شخصية وحسابات خاصة. فقد وصل عون للرئاسة ونعم كان العميد على حق اذ دُمر البلد على جميع الأصعدة. العميد لم يقل أننا سنذهب إلى جهنم، غيره ذكر ذلك… ولكن كان قريبًا من هذا التصنيف. 

حصلت ثورة ١٧ تشرين والبعض يقول أنها لم تنتهي. افتقدت الثورة قائدًا وما زالت يتيمة. كم كانت الأمور ستختلف لو كان العميد اده موجودًا ليقود تلك الثورة ويقلب الطاولة مع الجيل الجديد على هذه الطبقة السياسية الفاسدة وهو الذي لم يتعايش معها منذ منتصف القرن الماضي. ربما المطلوب إعادة شعلة الثورة وليكن العميد الراحل قائدها بمواقفه ومبادئه وأسلوبه. نحن لسنا بحاجة إلى شخص يخطب فينا، فلنستلهم من العميد ونبني لبناننا جديد.